رغم أن ابني جسار غير ناطق، ولا يستطيع التواصل، ولا أعرف ما إذا كان يعلم بأني والده، لكن يبقى الإنسان الوحيد الذي يُحبني بلا شروط، أي لا يُعقلن العلاقة بيننا، لا ذكريات يمكن أن نتشاركها، فالماضي منزوع من زمنه كما يبدو، وكل لحظة معه تُمثل حلاوة البدايات، بدايات لا نهائية، ولا

الإنسان ليس مخلوقًا على الثبات المطلق، بل صيغ ليترنح ويُختبر، ليعرف في عثراته مكامن ضعفه وأوهامه عن قوته، ويَختبر في نفسه ما يظنه فيها، فتركيبة الإنسان بذاتها تحوي منظومة الابتلاء التي تضعه في مواجهة دائمة مع ذاته في هذه الحياة.

التعاطف لا يعني صياغة الآخر من خلال معاناته، وكأن وجوده مُختزل في جراحه، بل التعاطف الحق أن ترى الإنسان بذاته، بشخصه، لا بمعاناته، وتتفاعل مع جوهره الطبيعي كما هو دون استدعاء دائم للألم ليكون محور العلاقة، فالمعاناة مهما كان أثرها، يجب أن تبقى أمرًا عابرًا في الحديث، لا محورًا.

كنت كمن يُحاول أن يُمسك الرياح بين كفّيه، كأنني أقف على حدود المستحيل، أقاومه بلا جدوى، ثم أدركت كما تتفتح الوردة بلا يدٍ تُجبرها، وكما يأتي الفجر دون استدعاء؛ أن سر السلام ليس في التحكم، بل في التوكّل، تبذل جهدك، ثم تترك للقدر أن يكمل اللوحة، على هيئة نهر متعرّج، يمضي بين الصخور.

العلاقات الناجحة لا تُبنى على التوافق فحسب، بل على ما يمكن تقبله من عيوب في كل طرف؛ فالأمان العاطفي يكمن في تلك المساحة التي تُحتضن فيها الاختلافات، حيث يصبح القبول أعمق من الكمال، والدعم أقوى من النقد، والتفهم أوسع من الأحكام.

وأعلم أن الدرب طويل، والنهاية غير مؤكدة، والحياة لغز، والغد مجهول، لكن الإنسان ابن تجاربه، وسعيه بإذن الله سوف يُرى.

تمتلك الأم وعيًا أعمق بمشاعرها، وقدرة على استيعاب عاطفة الأسرة، كما لو كانت تسبح في بحر من الأحاسيس، فتتجلى قدرتها على إصلاح ما ينكسر، وبث الحياة فيما يَخفت، ولعل هذا الوعي المرهف؛ هو مصدر صلابتها، وقدرتها على إعادة تشكيل الفضاء العاطفي المشترك، ودفعه نحو الصمود.

لحظات الوعي الفارقة في حياة الإنسان، تنبجس من أحداث عصيبة، وكأن فيه طبقة سميكة تمنعه من يقظته، فيحتاج إلى موقفٍ حادٍ يثقب قلبه، ليرى بإدراك ما كان يخفاه، وربما ما كان يخشاه.

الإنسان مشغول بما ينقصه، مَصدوف عن ما يملكه، لا ينتبه إلا إذا سُلبت من يديه نعمة يرفل فيها، ولو استقرأ زوال المُكتمل في حياته، لعرف فضل الله عليه، ووقر الإيمان في قلبه، وبه ارتقى سعيه، فلا يَغلب الشك يقينه، ولا السخط رضاه.

الاحتواء العاطفي المُسبق، من أعمق أشكال الوعي الذاتي، فيه يُمارس الإنسان نوعًا من المكاشفة الداخلية، يُصارح نفسه والآخر بما سوف يشعر به تجاه مسار أو سياق النقاش، أو تجاه موقف معين. هذه المكاشفة ليست مجرد إعلان عن شعور غير مرغوب في طور التشكل، بل نافذة لفهم الذات، وفرصة لاحتواء.

في اللحظات المصيرية تُدرك أنك تعيش بِنبضات عائلتك.

كل ما تملكه يملكك، وكل ما تتعلق به يُعلقك على القلق. نحنُ أحرار حين ندع ما ليس لنا يمضي، وسجناء حين نُحاول جمع الغبار في قبضة يدينا، وقد تكون بهجة الحياة ليس فيما نملك، بل بما نتخلى عنه لِنشعر بالخفة والسلام.

عَلق مشاعرك في المنزل، واذهب إلى العمل عاريًا إلا مِن الاحترام.

تُختبر العلاقات عند انكسارها؛ فإن نشأ لها ضلعٌ من موضع جبرها، ونبت غصنٌ أخضر فوق جراحها، فذلك أصلها المتين، الطاهر. أما إن تكسّرت كل أضلاعها تحت وطأة الشروخ، فذلك ضعفها وإعلان انتهاء أجلها.

إذا لم يكن الاعتذار على قدر عِظَم الذنب؛ فلا وزن له، ولا يُعوّل عليه.

الناضج ينتصر على الرغبات التي تُغرقه في دوامة الألم، ولا ينحني للإنفعالات، بل يحوّلها إلى قوة أخلاقية، ويعيد تشكيل حياته بمعانٍ أعمق من رغباته العابرة.

المُحب لا يضع من يُحبهم في امتحانٍ قاسٍ يستفز فيهم كل دواعي فطرة الدفاع عن وجودهم.

البعض يُنكر المُعاناة على من يُعاني شيئًا من نوائب الدهر حين يمضي في حياته، يسافر، يعمل، ويبتسم كأن شيئًا لم يكن، يظنونه يموّه ألمه، يكذب في مشاعره، لكنهم لا يدركون أن هذا هو عين الصبر والرضا؛ أن تواجه قسوة الحياة بالحياة نفسها، أن تنهض رغم الثقل، وتبتسم رغم الانكسار.

أن تجد مَن يُريدك لذاتك، فذلك أندر مِن النادر. الغالبية يُريدون ما تُقدمه لهم.

تأتي ضربات الحياة الموجعة لتقويم الأنفس، فإما أن تُعيد الإنسان إلى حقيقة قدره إذا كان مُغترًا بنفسه، أو تُحفزه لاكتشاف قيمته الحقيقية إذا كان يُقلل من شأنها.

أحيانًا القشة لا تقصم ظهر البعير، بل تفتح بصيرته ليتخلص من أحمالٍ تُعيق رحلته.